المسجد الإبراهيمي- تجربة تهويد مُهّدتْ للأقصى

المؤلف: د. عبد الله معروف08.23.2025
المسجد الإبراهيمي- تجربة تهويد مُهّدتْ للأقصى

في غمرة الأحداث المتسارعة التي تعصف بالمنطقة، اتخذت إسرائيل قرارًا خطيرًا تجاه المقدسات، ربما يكون الأخطر منذ نكبة فلسطين عام 1948. ففي منتصف شهر يوليو/تموز الحالي، أقدمت حكومة نتنياهو على خطوة استفزازية، تمثلت في إلغاء صلاحيات وزارة الأوقاف الفلسطينية وبلدية الخليل في إدارة شؤون المسجد الإبراهيمي، وتحويل هذه الصلاحيات إلى المجلس الديني التابع لمستوطنة كريات أربع المتطرفة.
هذا القرار الخطير، ما هو إلا تتويج لمسلسل طويل من الإجراءات والتدابير التي تهدف إلى فرض السيطرة الكاملة على المسجد الإبراهيمي، منذ بداية الاحتلال عام 1967. فبالرغم من أن منطقة الخليل كانت تخضع للاحتلال العسكري في ذلك الوقت، ولم يتم ضمها رسميًا إلى أراضي الدولة، كما حدث في القدس، إلا أن إسرائيل تعمدت استثناء المسجد الإبراهيمي من الإجراءات العسكرية التي طالت المساجد الأخرى في الضفة الغربية. كانت إسرائيل تتجنب أي استفزازات أو اعتداءات مباشرة على المساجد الأخرى خوفًا من ردود الفعل الفلسطينية الغاضبة.

أما في حالة المسجد الإبراهيمي، فقد كان الحاخام العسكري الإسرائيلي "شلومو غورين" هو أول من تجرأ على اقتحام المسجد عشية الاحتلال، حيث قام بإغلاق بواباته وأقام فيه صلواته، مسجلًا بذلك سابقة خطيرة في تعامل حكومة الاحتلال مع المسجد الإبراهيمي. تم على إثر ذلك الإعلان عن حقوق خاصة لليهود في هذا المسجد، باعتباره مكان دفن النبي إبراهيم الخليل والنبي إسحق والنبي يعقوب عليهم السلام.

بناءً على ذلك، أصرت الإدارة المدنية التابعة للجيش الإسرائيلي في ذلك الوقت على منح المسجد الإبراهيمي وضعًا استثنائيًا، يسمح لليهود بالصلاة داخله في أيام محددة تعتبر مقدسة في الديانة اليهودية. ثم تم توسيع هذه الأوقات لتشمل ساعات معينة كل يوم، وهو ما يعرف اليوم بـ "التقسيم الزماني".

على الرغم من الرفض والمقاومة الفلسطينية الشديدة لتلك الإجراءات، إلا أن الضغوط الإسرائيلية المتزايدة، وغياب ردة الفعل الرسمية العربية والإسلامية القوية، سهّلا مهمة الاحتلال في تطويع المنطقة، وتحويل الإجراءات الإسرائيلية الظالمة إلى أمر واقع مفروض.

وهكذا، ترسخت مع مرور الوقت فكرة التقسيم الزماني للمسجد الإبراهيمي بين المسلمين واليهود، حيث تم تخصيص ساعات محددة لدخول اليهود، وأخرى للمسلمين، بالإضافة إلى تخصيص أيام معينة من الأعياد اليهودية ليصبح المسجد الإبراهيمي يهوديًا بالكامل في تلك المناسبات.

ثم جاءت فاجعة مجزرة المسجد الإبراهيمي في فجر 15 رمضان الموافق 25 فبراير/شباط 1994، والتي استشهد فيها 29 مصليًا فلسطينيًا على يد الإرهابي باروخ غولدشتاين، لتعلن بداية حقبة جديدة من المعاناة في المسجد الإبراهيمي. فبعد ستة أشهر من إغلاق المسجد للتحقيق في المجزرة وأحداثها، توصلت لجنة شمغار الإسرائيلية إلى حل كارثي يقضي بتقسيم المسجد الإبراهيمي مكانيًا بين المسلمين واليهود، بعد 27 عامًا من التخطيط والتحضير لتلك الخطوة الخبيثة. وبذلك، كافأت تلك اللجنة المعتدي المجرم بدلًا من منعه نهائيًا من دخول المكان المقدس.

في أعقاب ذلك، تم توسيع السيطرة على المسجد تدريجيًا على مدى 16 عامًا كاملة، حتى أصبح المسجد الإبراهيمي يُستخدم من قِبَل المستوطنين المتطرفين أكثر بكثير مما يستخدمه المسلمون، الذين كانوا يُمنعون من دخوله بحجج أمنية واهية، تمتد لأسابيع، وأحيانًا لشهور.

إلى أن جاء الوقت المناسب لتتقدم إسرائيل خطوة كبيرة أخرى في 21 فبراير/شباط 2010، وتقوم بتسجيل المسجد الإبراهيمي ضمن قائمة التراث اليهودي، محولةً إياه قانونيًا إلى كنيس يسمح للمسلمين بالصلاة فيه، بعد أن كان مسجدًا يسمح لليهود بالصلاة فيه.

ومع ذلك، ظلت إدارة المسجد عمليًا بيد وزارة الأوقاف الفلسطينية طوال تلك الفترة الممتدة على مدى حوالي 58 عامًا من الاحتلال. إلى أن صدر القرار الأخير قبل أيام، وبعد 15 عامًا من الإعلان الإسرائيلي عن المسجد جزءًا من التراث اليهودي، ليكون تتويجًا وترجمة عملية لقرار حكومة الاحتلال عام 2010، حيث قامت إسرائيل ببساطة بسحب سلطة إدارة المسجد الإبراهيمي من الأوقاف الإسلامية وبلدية الخليل الفلسطينية، وتسليمها إلى المجلس الديني لمستوطنة كريات أربع.

إن تبعات هذا القرار في الحقيقة مدمرة وذات أبعاد شديدة الخطورة والعمق، فالأمر لا يتعلق بكيفية إدارة المسجد فحسب، وإنما يتجاوز ذلك إلى نقطتين جوهريتين:

  • الأولى: أنه يعتبر خطوة عملية على طريق تطبيق مشروع ضم الضفة الغربية الذي يتبناه وزير المالية المتطرف سموتريتش، وهو العقل الاستيطاني المدبر في حكومة نتنياهو. فمن خلال هذا القرار، تعلن إسرائيل أن مستوطنة كريات أربع لم تعد منطقة عسكرية محتلة، كما ينص القانون الدولي، وإنما هي وكل مكوناتها البشرية جزء أصيل معترف به من حكومة إسرائيل.

وهو يمثل التطبيق العملي الكامل لقرار اعتبار المسجد تراثًا يهوديًا، والذي كان له تبعات على أرض الواقع في ذلك الوقت لم ينتبه لها أحد تقريبًا، منها على سبيل المثال قرار حكومة نتنياهو عام 2012 بمد طريق استيطاني يصل المسجد الإبراهيمي بمستوطنة كريات أربع مباشرة، والذي مر يومها دون ردود فعل حقيقية.

كما أن حكومة نتنياهو بهذا القرار تضفي الشرعية على الكيانات التي اخترعها المستوطنون في مستوطنات الضفة الغربية، وهو أمر بالغ الخطورة، لأنه يعني كذلك تقوية الكيانات والمجالس الدينية للمستوطنين على حساب كيانات أخرى مثل الحاخامية الرسمية للدولة، والتي يتجاوزها المستوطنون في كثير من الأحيان.

وهو ما يمكّن المستوطنين من اعتبار أنفسهم دولة داخل الدولة، كما يحلم بذلك تيار الصهيونية الدينية الذي يسيطر حاليًا على هذه الكيانات الدينية. وربما يساعدهم ذلك مستقبلًا في الانفصال وإعلان كيان حاخامات خاص بهم في حال حدوث صدام مجتمعي عنيف داخل إسرائيل، كما يتوقع العديد من المراقبين.

  • الثانية: أن هذا القرار يعتبر تجربة يتم التخطيط لتطبيقها بحذافيرها على المسجد الأقصى المبارك في القدس، حيث تعتبر إسرائيل المسجد الإبراهيمي في الخليل منطقة اختبارات وتجارب لعملية التهويد وتغيير الوضع القائم، والتي يتم تطبيقها لاحقًا على المسجد الأقصى المبارك، الذي يمثل درة التاج وذروة ما تسعى إسرائيل للسيطرة عليه فيما يتعلق بالأماكن المقدسة.

وبالتالي، فإن السيناريو الطويل الممتد على مدار 58 عامًا في المسجد الإبراهيمي، والذي تعتبره حكومة نتنياهو اليوم قد تكلل بإعلان الانتصار النهائي من خلال تغيير إدارة المسجد ونقلها إلى المستوطنين، يتم تطبيقه بالفعل في المسجد الأقصى المبارك، ولكن مع فارق واحد هو الوقت.

فوتيرة الأحداث والتغييرات في المسجد الأقصى تتجاوز تلك التي كانت تُطبق في المسجد الإبراهيمي. فقد احتاج المسجد الإبراهيمي إلى 27 عامًا تقريبًا من التقسيم الزماني لتبدأ عملية تقسيمه مكانيًا عام 1994، واحتاج 31 عامًا بعد ذلك لإعلان السيادة الإسرائيلية الكاملة عليه ونقل إدارته إلى جهات دينية يهودية.

أما المسجد الأقصى، فإن تيارات اليمين المتطرف والصهيونية الدينية تتعجل كما يبدو الانتقال من مرحلة التقسيم الزماني، الذي كان مشروعًا يحاولون تنفيذه بالقوة على مدار السنوات العشر الماضية منذ عام 2015، إلى مرحلة التقسيم المكاني الذي نادى به لأول مرة النائب عن حزب الليكود عميت هاليفي منتصف عام 2023، والذي يسعون لتطبيقه عبر خطوات أولها بناء كنيس داخل المسجد الأقصى.

وهذا ما يطالب به اليوم بكل وقاحة وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير، ومجموعة كبيرة من قادة المستوطنين الذين يتوعدون بالعمل على تنفيذ هذه العملية في القريب العاجل.

ويبدو أن بن غفير لديه رغبة جامحة في التفوق على سموتريتش في هذا الملف.
ولذلك، فإن هذا القرار، وإن كان مسرحه المسجد الإبراهيمي في الخليل، فإن تداعياته على المسجد الأقصى في القدس لن تتأخر، وقد بدأنا بالفعل نلمس هذه التداعيات، حيث أصدر وزير القدس مائير بروش، التابع لحزب "يهدوت هتوراه" الحريدي، تعليمات بمصادرة حوالي 20 عقارًا فلسطينيًا في طريق باب السلسلة الملاصق للمسجد الأقصى المبارك وضمها للحي اليهودي المجاور، وذلك بعد يومين فقط من قرار حكومة نتنياهو المتعلق بالمسجد الإبراهيمي، وقبل يوم واحد من استقالته مع حزبه من الحكومة على خلفية أزمة تجنيد الحريديم.

وبذلك تضمن إسرائيل السيطرة على منطقة باب السلسلة بعد أن سيطرت على منطقة باب المغاربة قبل 58 عامًا غداة الاحتلال. وتعتبر هذه الخطوة مقدمة ضرورية لتفريغ تلك المنطقة من الفلسطينيين وضمان عدم وجود مقاومة قوية في حال قررت سلطات الاحتلال اقتطاع أي أجزاء من المسجد الأقصى في تلك الناحية؛ بهدف إقامة كنيس كما يتوعد بن غفير.

ربما تحمل الأيام القادمة اعتداءات غير مسبوقة على المسجد الأقصى في ظل هذه التطورات الخطيرة، خاصة مع شعور اليمين الصهيوني بالغطرسة والزهو نتيجة لنجاحه في إحكام قبضته على المسجد الإبراهيمي بالقرارات الأخيرة. ونحن على موعد يوم الأحد 3 أغسطس/آب القادم مع أحد أخطر مواسم الاعتداءات على المسجد الأقصى، وهو ما يسمى "ذكرى خراب المعبد".

وقد تحاول جماعات الهيكل والصهيونية الدينية استغلال هذا الحدث المشؤوم والظروف المحيطة بالمنطقة لتحقيق مكاسب وخطوات أكبر في المسجد الأقصى، كما عودتنا في كل موسم اقتحامات رئيسي.

لذلك، فإن قرارًا كهذا بشأن المسجد الإبراهيمي يجب ألا يمر مرور الكرام دون محاسبة، ولا يجب أن يكتفي الفلسطينيون والعرب والمسلمون بمجرد الإدانة والاستنكار والتعبير عن الغضب الذي لا يتجاوز حدود الكلام. فإذا لم يشعر الاحتلال بثقل عواقب أفعاله الشنيعة في المنطقة، فإن ذلك سيشجعه على ارتكاب المزيد من الجرائم والانتهاكات. فالكرة الآن في ملعب شعبنا الفلسطيني الصامد.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة